تعليم الواجبات الدينية بإحياء رسالة المسجد
الشيخ/ محمد بن موسى العامري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن حاجة الأمة اليوم إلى العلم الضروري الذي لا يسع المسلم جهله فوق كل حاجة؛ إذ بذلك يستقيم حالها وتسعد في دنياها وأخراها.
فالعلم بالله وتوحيده، ومعرفة ما افترض الله على عباده من الواجبات، يعد مفتاحاً لإخراج المكلف من داعية هواه، وقيامه بما كلف به من العبادة لله، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات :56].
ولا ريب أن فشو الجهل بين المسلمين اليوم، وانتشار الأمية في أوساطهم، قد ساهم في إبعاد الأمة عن دينها، وجعلها فريسة للشبهات المثارة اليوم من قبل أعداء الإسلام والمسلمين، سواء أكانوا من الأعداء الصرحاء الكاشفين عن أقنعتهم، أم كانوا من الأعداء المتقنعين والمتدثرين بشيء من المظهر الإسلامي، الذي ينفذون من خلاله إلى مسالك الغواية والانحراف.
لأجل ذلك وغيره فإن القيام بتعليم العلوم الشرعية وتيسيرها للناس يعد من أهم وآكد الواجبات اليوم على حملة العلم وأنصار الشريعة، وليس المقصود هنا بالعلوم الشرعية ما تعلق بالفروض الكفائية من علوم الآلة، (أصول، لغة، مصطلح) ونحو ذلك، أو التعمق في مسائل وتفصيلات العقيدة، أو التفريعات الفقهية، فتلك لها معاهدها، وجامعاتها، والمتخصصون فيها، وإنما المقصود هنا ما لابد منه من إقامة الفرائض والواجبات العينية، واجتناب الكبائر وسائر المحرمات، التي تتعلق بها نجاة العبد أو هلاكه وعطبه، بإقامة الحد الأدنى من العلوم التي تتحتم على كل مسلم، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: \”طلب العلم فريضة على كـل مسلم\”، رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
ومن المؤكد أن وسائل التعليم قد تعددت اليوم وكثرت، وهي بلا شك وسائل ناجحة إذا أُحسن توظيفها، والاستفادة منها في توجيه الناس وتعليمهم .
غير أن قلعة المسجد ستظل هي المنطلق الأول للإصلاح الديني، ولإحياء الأمة بالإيمان وتجديده فيها، ذلك لأن للمسجد خاصية لا تتوفر في بقية المرافق مهما كانت مكانتها.
رسالة المسجد في الإسلام:
1ـ المسجد هو فاتحة التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية، وهو أول ثمار للتمكين في الأرض، كما حدث ذلك في تأسيس مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قدم مهاجراً من مكة إلى المدينة.
لقد كان هو الآلة الأولى التي حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامتها؛ ليكون المسجد منطلقا لإقامة الدين، ونشر الدعوة إلى الله، وتعليم المسلمين أمور دينهم، فهو الجامعة، والمحكمة، وهو مركز القيادة المؤمنة، ومجلس شورى المسلمين، وهكذا استمر الحال بالمسجد في القرون المفضلة، فمنه تخرج الأجيال وتصنع الرجال .
2ـ المسجد يجتمع فيه أطياف الناس، بمختلف أعمارهم وثقافاتهم، والداخل فيه لديه استعداد لتطهير قلبه، وتصحيح عقيدته وسلوكه، فالنفوس فيه مهيأة لقبول التوجيه والنصح أكثر من أي مكان آخر.
وفي الحديث: \”وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده\” رواه مسلم وغيره.
3ـ يرتبط بالمسجد أعظم العبادات البدنية، وهي الصلاة التي فرض على المسلمين أداؤها والخشوع فيها، ومن ذلك صلاة الجمعة والإنصات لخطبتها، بحيث لو اعتني بها لكان لها دور عظيم في ربط المسلمين بدينهم، وإحياء المعاني الإيمانية فيهم، وهي متكررة في كل أسبوع مرة واحدة .
4ـ لقد حرص الإسلام على العناية بالمسجد، والإشادة به وبعُمَّاره: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [سورة التوبة: 18]، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ *رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [سورة النور: 36]، وقوله صلى الله عليه وسلم: \”من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة\” متفق عليه.
ومن أعظم عمارته إقامة الصلاة فيه على الوجه المشروع، وعمارته بالقرآن تعلماً، وتعليماً، ونشر العلم فيه.
ولقد وقف الصحابي أبو هريرة -رضي الله عنه- يوماً على أهل السوق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بأعلى صوته: \”يا أهل السوق! ما أعجزكم! فقالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم هاهنا! ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد؛ فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: مالكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئا يقسم؟ فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى، رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم\”، رواه الطبراني وحسنه الألباني.
وهذا يدل على جانب عظيم من عمارة المسجد في زمن الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين
منهج عملي لإحياء رسالة المسجد:
وللقيام برسالة المسجد وإحيائها في الناس، أشير هنا على جهة الاختصار إلى أهم الخطوات العملية المعينة على ذلك:
أولاً: إقامة الحلقات العلمية المناسبة لعامة الناس، بالتنسيق مع أحد العلماء أو طلبة العلم المتميزين، وينبغي أن يراعى في دروس المسجد ما يلي:
1 ـ تعليم الناس الأركان الخمسة، بدأً بالشهادتين، ثم الصلاة، فالزكاة، فالصوم، فالحج، ويحرص في ذلك على تبسيط العلم، واختيار الكتب الميسرة، التي يتم من خلالها شرح التوحيد، وشعب الإيمان، والتأكيد على شروط لا إله إلا الله، ومعرفة ما يناقضها ويضادها، وكذلك يختار كتاب في الفقه ميسر، وسهل العبارة، يتم من خلاله بيان كيفية الصلاة، وأركانها، وشروطها، وواجباتها، وصفتها، وما يبطلها، وهكذا بقية أركان الإسلام.
2 ـ بما أن المسلمين اليوم يجهلون الكثير من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله وأخلاقه، فمن المهم أن يكون هناك درس في السيرة النبوية؛ لتعميق حب الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين، وأقترح أن نختار مثلاً كتاب (الرحيق المختوم) للمبارك فوري، وما يشابهه.
3 ـ إقامة المحاضرات العامة، والندوات التي يحتاج إليها الناس لمعرفة ما يعتريهم من المشكلات، وما يتعرضون له من النوازل المتجددة، وكيف يكون موقف المسلم منها.
4ـ العناية بجانب الوعظ، والكلمات، والخواطر المختصرة، خشية السآمة على الناس، عملاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعاهد أصحابه بالموعظة بين الفينة والأخرى، كما ثبت في الصحيح.
5ـ حفظ الشباب في الحي، بإقامة وإنشاء ملتقيات وأندية شبابية ترتبط بالمسجد، تشتمل على أنشطة التحفيظ، والتثقيف، والنشاط الرياضي، وإيجاد المحاضن التربوية المناسبة لحمايتهم من الانحرافات، وحفظهم من الضياع وجلساء السوء.
6ـ إيجاد صندوق خيري تعاوني لرعاية الفقراء والمحتاجين في محيط المسجد، ويمكن دفع هذه المعونات لمن يقوم بالتعليم إذا كان من ذوي الحاجة والمتفرغين لذلك.
7ـ إيجاد لجنة من رواد المسجد، ومن أهل الغيرة على الدين، يكون من أهم أعمالها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب لاسيما في محيط المسجد، وإقامة دورات تأهيلية وتثقيفية لهذا العمل.
8ـ إيجاد لجنة من رواد المسجد كذلك للقيام بالإصلاح بين الناس، وفض المنازعات، ويختار لهذه المهمة أهل الخبرة والحرص على ذلك.
9ـ الاهتمام بالمرأة من خلال المسجد بإيجاد المصليات الخاصة بهن، وإقامة الحلقات التعليمية، وتحفيظ القرآن الكريم.
10ـ إيجاد المكتبات المسجدية، وتزويدها بالكتب النافعة، التي يحتاجها عامة الناس، سواء كان ذلك في مسجد الرجال، أو في مصلى النساء، وهذه الوسيلة لها ثمارها الطيبة، سواء كانت مكتبات مفتوحة أم مكتبات خصصت للإعارة .
11ـ تفعيل دور الأئمة والخطباء.
إذا أردنا أن يقوم المسجد برسالته التعليمية، فلا بد من الاهتمام أولاً وقبل كل شيء بإمام المسجد وخطيبه، فهما قطب الرحى في كل ما تقدم.
ولقد كان لنتيجة الضعف العلمي والثقافي لكثير من المساجد أثر بارز في القضاء التدريجي، الذي ساهم في غياب رسالة المسجد، لذا كان لزاما ونحن نتحدث عن رسالة المسجد ودورها التعليمي، وأن نولي عناية كبرى بإعداد الأئمة والخطباء، ويمكن أن نشير هنا إلى أهم هذه الجوانب فيما يلي:
1ـ إعداد الإمام الصالح، القدوة، الفاهم لمقاصد الشرعية، القوي الصلة بالله سبحانه وتعالى، حتى يكون له أثر فعال في أوساط المجتمع.
2ـ أن يكون من ذوي الأخلاق الحسنة، الذين يتصفون بالحلم والصبر، والحرص على تعليم الناس أمور دينهم.
3ـ أن يكون معتنياً بالأصلين، (الكتاب والسنة) ومحيطاً بالبيئة التي يعيش فيها، ولديه معرفة بظروفها، والتيارات الموجودة فيها؛ ليمكنه ذلك من المعالجات النافعة.
4ـ أن يتجنب المبالغات والتهويل في الطرح، وتيئيس الناس، ومجاملة الجمهور، وأن يبتعد عن القصص الواهية.
توصيات:
1ـ إيجاد ملتقى عام لأئمة وخطباء المساجد، يتم فيه تبادل الخبرات، وتدارس العقبات والمشكلات التي تواجه الأئمة والخطباء، للخروج بحلول فعالة لها .
2ـ إيجاد مؤسسات تولي رسالة المسجد والأئمة والخطباء جل اهتمامها.
3ـ النهوض بمكانة الأئمة ومساعدتهم اجتماعياً، واقتصادياً، لأجل إحياء رسالة المسجد، بحيث لا ينشغلوا بأمورهم المادية، على حساب المهنة المنوطة بهم.
4ـ إقامة اللقاءات الدورية لأئمة المساجد في المناطق المتقاربة، والتشاور في علاج المشكلات
الاجتماعية المرتبطة بتلك المنطقة .
5ـ الحرص على أن يظل الخطيب متمكناً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم السماح بأي وصاية عليه، من شأنها أن تقيد من حريته، أو تفرض عليه أن يقول بخلاف ما يقتنع به شرعياً.
6ـ تكوين لجنة من العلماء والمختصين تقوم بإعداد منهج تعليمي للمساجد، يتناسب مع مختلف المستويات، ويتم توزيع هذا المقرر على جميع الأئمة والخطباء للاستفادة منه.
المصدر : موقع رسالة الاسلام